"الإيكونوميست": تراجع التلوث في جنوب آسيا يؤدي لارتفاع كارثي في درجات الحرارة
"الإيكونوميست": تراجع التلوث في جنوب آسيا يؤدي لارتفاع كارثي في درجات الحرارة
شهدت منطقة جنوب آسيا، خلال العقود الأربعة الماضية، ارتفاعًا بطيئًا في درجات الحرارة مقارنةً ببقية أنحاء العالم، فقد ارتفعت درجة الحرارة في هذه المنطقة بمعدل 0.09 درجة مئوية فقط لكل عقد، في حين بلغ المعدل العالمي 0.30 درجة، و0.23 درجة في المناطق الواقعة على نفس خط العرض.
ووفقا لتقرير نشرته مجلة "الإيكونوميست"، الأربعاء، ربط علماء المناخ هذا البطء في الاحترار بعوامل عدة، أبرزها التلوث الكثيف والزيادة الواسعة في مشروعات الري، حيث لعب الضباب الدخاني والتغيرات في نظم الري دورًا كبيرًا في تخفيف حدة الاحترار.
لكن هذه الآليات لن تدوم طويلًا، فبينما يُعدّ تلوث الهواء السبب في وفاة ملايين الأشخاص سنويًا، فإن تقليصه –رغم ضرورته الصحية– قد يُطلق العنان لاحتباس حراري متسارع لم تشهده المنطقة من قبل.
وتُعاني جنوب آسيا أصلًا من درجات حرارة مرتفعة جدًا، خصوصًا خلال أشهر أبريل حتى يونيو، وهي الفترة التي تسبق حلول الرياح الموسمية، حيث ترتفع درجات الحرارة في تلك الأشهر إلى أكثر من 40 درجة مئوية في سهل الغانج الهندي، المنطقة الممتدة من شرق باكستان مرورًا بشمال الهند وصولًا إلى بنغلاديش.
وتشير الإحصاءات إلى أن أكثر من 40% من سكان العالم الذين يعانون من مستويات شديدة أو شديدة جدًا من الإجهاد الحراري يقطنون في هذه المنطقة.
خطورة الإجهاد الحراري
يُعدّ الإجهاد الحراري خطرًا قاتلًا، لا سيما بالنسبة لكبار السن والمصابين بأمراض مزمنة، وتشهد الهند سنويًا تصاعدًا خطيرًا في عدد الأيام التي تصل فيها درجات الحرارة إلى مستويات عالية للغاية.
هذا العام، بلغت درجات الحرارة في بعض المناطق 44 درجة مئوية، ما يعكس التوجه التصاعدي في معدلات الحرارة.
وأسهم تلوث الهواء، خصوصًا الهباء الجوي الناتج عن الكبريتات والسخام، في تقليل وصول أشعة الشمس إلى سطح الأرض، حيث تعمل هذه الجزيئات على عكس أو امتصاص ضوء الشمس، ما يؤدي إلى تبريد موضعي مؤقت.
وأفادت الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ بأن الهباء الجوي ساهم في خفض درجة حرارة العالم بنحو 0.4 درجة مئوية منذ الثورة الصناعية، ما خفّف أثر غازات الدفيئة إلى حد كبير.
لكن هذا التأثير قد يكون مضللًا، إذ تعمل جزيئات السخام، على سبيل المثال، على تسخين الغلاف الجوي رغم تبريدها لسطح الأرض، ما يؤدي إلى تباين حراري خطير.
انخفاض كبير في التلوث
خلال فترة الإغلاق المرتبطة بجائحة كوفيد-19 في ربيع عام 2020، لاحظ الباحثون انخفاضًا كبيرًا في التلوث، لكن درجات الحرارة لم ترتفع كما كان متوقعًا، بل شهدت برودة غير اعتيادية، وهو ما وصفته الدكتورة لوريتا ميكلي، عالمة المناخ في جامعة هارفارد، بأنه "لغز علمي يستحق التوقف".
أسهم التوسع الكبير في مشروعات الري منذ عام 1980 في امتصاص الحرارة وتبريد الهواء.
في الهند، تضاعفت مساحة الأراضي المروية خلال هذه الفترة، ما أدى إلى حجب الآثار الكاملة للاحتباس الحراري، وتشير دراسة نُشرت عام 2020 في مجلة " نيتشر كوميونيكيشنز" إلى أن توقف هذا التوسع قد يؤدي إلى زيادة عدد الأيام ذات الحرارة الشديدة في جنوب آسيا بمعدل يتراوح بين الضعف وثمانية أضعاف مقارنة بالحالة الراهنة.
ومع ذلك، يُجمع العلماء على أن استمرار الاعتماد على التوسع في الري لم يعد خيارًا ممكنًا، بسبب استنزاف المياه الجوفية في المنطقة وتراجع الكفاءة الزراعية في ظل ارتفاع الحرارة المتوقعة.
توقعات العشرين عامًا المقبلة
حذّر عالم الغلاف الجوي بجامعة واشنطن، ديفيد باتيستي، خلال اجتماع علمي في دلهي، من أن وتيرة الاحترار في الهند خلال العقدين المقبلين ستتضاعف مقارنة بالعشرين عامًا الماضية، وشاركه الرأي الباحث في جامعة هارفارد، دانيال شراج، الذي أكد أن درجات الحرارة في الهند ستتجاوز المعدلات العالمية في وتيرتها التصاعدية.
وأوضح العلماء أن التلوث والري لن يستمرا في التزايد كما في الماضي، وإذا توقف نموهما أو بدأ بالانخفاض، فإن جنوب آسيا ستواجه أثر الاحترار الكامل الذي كان مخفيًا لعقود بفعل هذه العوامل.
ويؤكد شراج أن "الهند لا يمكنها الاستمرار في سياسة الري الحالية، ولا يمكنها تحمل مستويات التلوث التي تهدد حياة سكانها".
وباشرت الحكومة الهندية في السنوات الأخيرة تنفيذ خطة طموحة للحد من التلوث،تستهدف السلطات خفض مستويات الجسيمات الدقيقة بنسبة تتراوح بين 20 و30% بحلول عام 2024 مقارنة بمستويات عام 2017، والوصول إلى نسبة 40% بحلول عام 2026، وحتى الآن، تمثلت أهم إنجازات البرنامج في إنشاء محطات مراقبة بيئية جديدة، إلا أن معظم المدن فشلت في بلوغ أهداف عام 2024.
ورغم ذلك، تُشير دراسة حديثة إلى وجود تحسن طفيف في مستويات التلوث خلال العقد الماضي، وتُقدّم تجارب دول أخرى، مثل اليابان والصين، نموذجًا ناجحًا في مكافحة التلوث بعد اتخاذ خطوات قانونية وتنظيمية صارمة.
وقد شكّل تلوث الهواء تهديدًا أشد من موجات الحر في جنوب آسيا، وفقًا لدراسة "العبء العالمي للأمراض"، تسبب تلوث الهباء الجوي في وفاة ما بين مليونين إلى ثلاثة ملايين شخص في عام 2021 وحده، مقارنةً بما بين 100 ألف و600 ألف حالة وفاة بسبب الحرارة.
وصرّح الباحث بهارجاف كريشنا من معهد "المستقبل المستدام التعاوني" في دلهي، بأن "الأرقام مخيفة، ويعود السبب إلى التعرض المزمن والمستمر على مدار العام لتلوث الهواء".
وتُشير الدراسات إلى أن بعض مناطق جنوب آسيا تعاني بالفعل من ظروف مناخية تقترب من الحد الأقصى لقدرة البشر على العيش، في أيام معينة، تصل درجات الحرارة إلى 45 درجة مئوية مع رطوبة نسبية تبلغ 50%، وهي ظروف شبه قاتلة.
ويتوقع باتيستي أنه بحلول عام 2047، سيتضاعف عدد أيام الإجهاد الحراري أربعة أضعاف حتى بافتراض بقاء التلوث والري عند مستوياتهما الحالية، وإذا انخفضا فسيزداد الوضع سوءًا.
الحلول الحالية غير كافية
يُعاني أكثر من نصف سكان الهند من التعرض اليومي للحرارة الشديدة بسبب عملهم في الهواء الطلق، بينما لا تتوفر أجهزة التكييف إلا في 10% فقط من المنازل، اعتمدت بعض المدن خططًا لمواجهة موجات الحر، شملت توفير مياه الشرب ومساحات تبريد للسكان، لكن هذه الخطط لا تواكب سرعة التغير المناخي ولا ترتقي لمستوى إعادة تصميم المدن لجعلها أكثر مرونة.
وما لم تُتخذ خطوات جذرية للتكيف والتخفيف من آثار الاحترار، فإن جنوب آسيا ستواجه في العقود المقبلة كارثة مناخية غير مسبوقة تهدد الأرواح والمعيشة على نطاق واسع.